يعد ميشيل فوكو من أبرز المفكرين الذين أعادوا التفكير في علاقة السلطة بالذات، فبالنسبة إليه، فالسلطة ليست مجرد جهاز قمعي أو مؤسسة مركزية، بل شبكة معقدة من العلاقات تنتشر في كل مستويات المجتمع، وتنتج أنماطًا معينة من الذوات عبر الخطابات والممارسات والانضباط. غير أن فوكو لا يرى الذات خاضعة كليًا لهذه السلطة؛ إذ يفتح مجالًا لفهم الذات كحقل للمقاومة أيضًا.
في أعماله المتأخرة، خصوصًا في ( تأريخ الجنسانية و تأويل الذات )، ينتقل فوكو من تحليل آليات السلطة والمعرفة إلى التفكير في كيفية تشكل الذات الإثيقية. فالمسألة بالنسبة له لم تعد فقط كيف تُنتج السلطة الذوات، بل كيف يمكن للذات أن تعمل على نفسها، وأن تُعيد صياغة علاقتها بالسلطة عبر ما يسميه (ممارسة الحرية). هذه الممارسات لا تعني رفض السلطة كليًا، بل التعامل النقدي معها، وفهم حدودها، والعمل على بناء أشكال جديدة من العيش تتجاوز السيطرة والتطبيع.
تكمن أهمية المقاومة الإثيقية عند فوكو أذن، في كونها ليست ثورة سياسية تقليدية، بل تحولًا ذاتيًا. والفعل الإثيقي في تصوره، هو نوع من الاهتمام بالذات التي تجعل الفرد قادرًا على إنتاج ذاته بحرية ومسؤولية، بعيدًا عن الأطر الجاهزة التي تفرضها الخطابات السلطوية. إنها مقاومة يومية، صامتة أحيانًا، لكنها تُعيد تعريف الحرية ليس كحق مجرد، بل كممارسة مستمرة لإبداع الذات.
وبذلك، يمكن القول، إن فوكو يقترح تصورًا للذات خارج خطة السلطة بمعناها الحتمي، من خلال إمكان بناء ذوات نقدية تمارس حريتها ضمن شروط الواقع دون أن تُستوعب كليًا فيه. فالمقاومة الأخلاقية عنده ليست خروجًا من السلطة، بل شكل من أشكال العمل داخلها ومن خلالها لفتح إمكانات جديدة للوجود الإنساني.
